هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب فيه سيرة تُنْبِئ عن عالَمٍ مصغَّرٍ في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وهو عالم على هذا النحو الموصوف بالقياس مع الدنيا يوم عاش فيها الجاحظ، فهذا العالم هو جزء بسيط منها، إلا أنه ضخم بما فيه من ثقافة وفكر؛ إنه مجتمع البصرة، وهو شريحة عن المجتمع الإسلامي الذي تحقق في ذلك الزمان، وكانت الثقافة الإسلامية هي التي تعتوره، وتسري في شرايين أهله، وتَخْضِب حياتَهم، وتصبغها بصِبْغ العقيدة الإسلامية التي كانت أُسَّهُ وأساسَهُ، وميدانَهُ ونبراسَهُ، ومُقْتَدى جُلاَّسِهِ.
والكتاب وإن كان موضوعه في البخل والبخلاء، إلا أن ما فيه أعظم من هذا بكثير، فقد حشد الجاحظ فيه طريقة تفكير طائفة من الناس كانت تعيش في البصرة أيامَهُ، وتطرّق إلى قصص وأخبار جعلها عنهم محور الكتاب، ثم جَرَّت القصص إلى أخبار وقصص أخرى عن بخلاء عاشوا في الجاهلية وفي الصدر الأول من الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، وإلى وسائل في عصر الجاحظ كتبها أناس من المشهورين والكبراء يجتحّون فيها بالبخل وللبخل، ويحشرون كل ما فكّروا فيه من أمور تعضد هذا المسلك الذي اختاروه في الحياة، ولم يكتف الجاحظ بذلكبل جاء برسالة ترد على البخل، وتنتصر للجود والإنفاق، والجاحظ في كل هذا يوضح لنا أنه يختار والإضحاك فحسب، وإن كانت الفكاهة مقصودة ومُحْتَسَبةً، إلا أنها عفوية، وليست هي المحل الأول والمرتبة العليا من الإهتمام، فوراءها ما وراءها من مقاصد اللغة، وسبيل المعرفة، وأهداف تتّجه إليها تحليلاته النفسية والفكرية، وكل هذا في نسيج يخفى إلا على المتأمل الغائص، الذي يريد أن يستغرق في أفكار الجاحظ ومقاصده وفلسفته وطريقة عرضه للأفكار، وهو أمر لم يُتِحْ لأحد أن يدرسه حتى اليوم دراسةً شاملةً مستفيضةً تستخرج لنا ماهية تفكير الجاحظ، وطبيعة فلسفته ورؤيته.
Reviews
There are no reviews yet.